صور والدي

مذ كنا صغارًا ووالدي يحب التصوير. وبالذات نحن، أفراد أسرته. يلتقط لنا صورًا بمناسبة وبغيرها. على الشاطئ، في البحر ونحن نسبح، وأجسادنا مدفونة تحت الرمال، ونحن نحاول تسلق المراجيح الصدئة والملتهبة من حرارة الشمس الحارقة، ونحن واقفون أمام المنزل، أو على دراجاتنا الصغيرة، ذات الشرائط الملونة والسلال البيضاء، أو فوق السيارات التي امتلكها على مر السنين، متأنقين أو بملابس النوم أو حتى بحمالاتنا الداخلية القطنية البيضاء. ولكل واحدٍ منا صورة واحدة على الأقل وهو يقضم بأسنانه اللبنية غليونًا من غلايين والدي الثقيلة الكبيرة بحجم رؤوسنا، أو مرتديًا “كندورته” وواضعًا على رأسه “غترته” وعقاله. وفي السفر كان والدي يباغتنا دائمًا بالصور، غير مبالٍ بتأففنا وتذمرنا، أو الحرج الجلي على وجوهنا من المارة، وهو يطلب منا الوقوف هنا، وهناك، مع تلك الفرقة الفولكلورية أو ذلك التمثال. وحين كبرنا قليلًا وصرنا نسافر لوحدنا، صار والدي يشتري لكل واحدٍ منا كاميرا “كوداك” خاصة به، يضعها في حقيبته مع ما يزيد عن العشرين لفافةٍ من الأفلام، يشرح لنا طريقة وضع اللفافة الصغيرة في حاوية الكاميرا، وتثبيت شريط الفيلم داخلها، وكيف نمسك الكاميرا، وكيف نبعد أصابعنا عن عدستها، وكيف نرفع “الفلاش” ومتى نستخدمه، وكيف نخرج لفافة الأفلام بعد استهلاكها، ونعيدها إلى علبتها الصغيرة. وحين كنا نعود من السفر كان والدي يوبخنا حين يجد بعض لفافات الأفلام سليمة وغير مستخدمة، أو حين يكتشف، بعد تحميضها، أننا لم نلتزم بتعليماته. ولَم يكن والدي يلقي بالًا لموضوع الصور، فقد كانت كلها بلا هدف، نلتقطها ونحن ممددين على الأسرة أو مع أصدقائنا، أو ونحن نصنع وجوهًا مضحكة، أو لأشياء عشوائية نصادفها في الطريق، كل ما كان يشغل والدي هو أن نلتقط صورًا فحسب، وكم جعلنا ذلك نحتار في أمر والدي، ولا نفهم سبب ولعه وحرصه بأن نفعل مثله، وربما لذلك كبرنا كلنا ولم يرث أي منا هوس والدي في التصوير، ورغم أن والدي توقف عن شراء الكاميرات لنفسه أو لنا منذ زمن بعيد، إلا أنه ما زال يحب تصوير عائلته، ليس نحن، بالطبع، بل أحفاده، وكثيرًا ما يفعل هذا حين يصحبهم معه إلى البحر، أو حين يأتون لزيارته كل جمعة، يجلسهم على الأريكة الكبيرة حوله، وينادي عليّ بنفاذ صبر، أركض إلى مجلسه وأنا أعرف سلفًا ما يريد وما عليّ فعله. “صورينا” يقول لي وهو يناولني هاتفه.

الصورة لي مع أخويَّ عمّار ومحمد على كورنيش أبوظبي. بعدسة الوالد.

Scroll to Top